سفیان الثوري و فقاهته


 بسم الله الرحمن الرحیم 


 🌹 *سفيان الثوري و فقاهته* 🌹


*محمد شهاب الدين العليمي*

*الجامعة العليمية جمدا شاهي*


۱۲ من رجب ١٤٤١ھ

٩ من مارس ٢٠٢٠ع


                 🌻 *ترجمته :* 🌻


          ولد الإمام سفيان الثوري رضي الله تعالى عنه في خراسان عام ٩٧ه‍ في عهد السطان سليمان بن عبد الملك. ابوه سعيد بن مسروق من المحدثين العظام و من أصحاب الإمام الشعبي و خيثمة بن عبدالرحمن ومن ثقات الكوفيين. ويعد من صغار التابعين . روى عنه الجماعة الستة في دواوينهم وحدث عنه سفيان الإمام ، وعمر ، وشعبة بن الحجاج وأبوالأحوص ، وزائدة وآخرون - مات سنة ١٢٦ھ. وله أثر کبیر و دور بارز في تثقيف شخصية ولده الثوري و تربيته.


           أخذ الإمام الثوري عن أبيه و عن شيوخ كثيرين من أمثال الإمام الأعمش ، وأبوالزناد عبد الله ، وأبوعقيل مولى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، وإبراهيم بن عبد الأعلى ، وطعمة بن غيلان ، وعطاء بن السائب ، و ابن أبي ذئب وغيرهم - رحمهم الله تعالى. يذكر أنه يبلغ عدد شيوخه و أساتذه ست ماة . و أجلة مشائخه التابعون الذين يحدثون عن أبي هريرة ، و جرير بن عبدالله ، وإبن عباس و أمثالهم رضى الله تعالى عنهم . وأخذ عنه خلق كثير لا يحصى عددهم - ذكر الإمام عبد الرحمن بن الجوزي أن الذين أخذوا عنه أكثر من عشرين ألفا . ومن كبار تلامذته الإمام عبدالله بن المبارك ، ويحى بن سعيد القطان ، ووكيع بن الجراح ، ومحمد بن عجلان ، وسفيان بن عيينة ، والإمام القاضي فضيل بن عياض ، والإمام الأوزاعي ، والإمام شعبة وخلائق رضى الله تعالى عنهم اجمعين . 


            هو شيخ الإسلام والمسلمين وحجة الله على خلقه وسيد الحفاظ جمع في زمنه بين الفقه والاجتهاد فيه . أجمع الناس على ديانته و زهده وورعه وثقته و لم يختلفوا في ذلك هو أحد الأئمة المجتهدين وأحد أقطاب الإسلام وأركان الدين.


            يصفه أبوبكر أحمد بن على الشهير بالخطيب البغدادي قائلا : كان رضي الله تعالى عنه إماما من أئمة المسلمين ، وعلما من أعلام الدين ، مجمعا على إمامته بحيث يستغنى عن تزكيته ، مع الإتقان ، والحفظ ، والمعرفة ، والضبط ، والورع ، والزهد. ذكر في "كتاب الثقات" أنه كان رضي الله تعالى عنه من سادات أهل زمانه فِقها و ورعا و حفظا و إتقانا. شمائله في الصلاح والورع أشهر من أن يحتاج إلى الإغراق في ذكرها .


        🌻 *زهده وورعه :* 🌻


             كان لسفيان الثوري رضي الله تعالى عنه آرائه الخاصة بالزهد . فكان يرى أنه ليس الزهد بأكل الغليظ و لبس الخشن ولكنه قصر الأمل و إرتقاب الموت . و يقول : الزهد زهدان ، زهز فريضة و زهد نافلة . فأما الزھد الفریضة فإنه واجب عليك وهو أن تدع الفخر والكبر والرياء والعلو والسمعة والتزئين للناس . و أما الزهد النافلة فهو أن تدع ما أعطاك الله من الحلال ، فإذا تركت شيئا من ذلك صار فريضة عليك أن لا تتركه إلا لله عزوجل .


          قال يوسف بن أسباط : قال لي سفيان بعد العشاء ، ناوِلني المطهرة ، فناولته ، فبقى مفكرا ، و نمتُ ، ثم قمت وقت الفجر فإذا المطهرة في يده كما هى ، فقال : لم أزل منذ ناولتني المطهرة أتفكر في الآخرة حتى الساعة . قال وكيع بن الجراح عن سفيان : لو أن اليقين ثبت في القلب لطار فرحا أو حزنا أو شوقا إلى الجنة أو خوفا من النار . وقال قتيبة : لو لا سفيان لمات الورع . إلتقي سفيان الثوري والقاضي فضيل بن عياض ، فتذاكرا ، فبكيا ، فقال سفيان : أني أرجو أن يكون مجلسنا هذا أعظم مجلس جلسناه بركة . فقال له فضيل : لكني أخاف أن يكون أعظم مجلس جلسناه شُؤْما ، أليس نظرت إلى أحسن ما عندك ، فتزينتَ به لي ، وتزينتُ لك ، فعبدتني و عبدتك ، فبكى سفيان الثوري حتى على نحيبه ، ثم قال : أحييتني أحياك الله . 

قال عبد الرزاق : لما قدم سفيان علينا ، طبخت له قدر سِكباج ( نوع من الطعام ) ، فأكل ، ثم أتيته بزبيب الطائف ، فأكل ، ثم قال : يا عبد الرزاق! إعلف الحمار و كُدَّه ، ثم قام يصلي حتى الصباح .


      🌻 *كما يراه العلماء المعامرون له :* 🌻


              إعترف الكثيرون بفضل سفيان الثوري ووضعوه على منزلة عالية . فقد وصفه الإمام الذهبي بأنه شيخ الإسلام ، إمام الحفاظ سيد العلماء العاملين في زمانه أبو عبد الله الثوري الكوفي المجتهد مصنف كتاب "الجامع" . قال شعبة ويحى بن معين وجماعة : سفيان الثوري أميرالمؤمنين في الحديث . وقال عبد الله بن المبارك : كتبت عن ألف ومأة شيخ ما فيهم أفضل من سفيان .


         جاء رجل إلى الإمام أبي حنيفة فقال : ألا تری ما روی سفیان الثوري ؟ فقال له الإمام أبو حنيفة : أتأمرني أن أقول : إن سفيان الثوري يكذب في الحديث ؟ لو أن سفيان كان في عهد إبراهيم النخعي ، لاحتاج الناس إليه في الحديث ، وأيضا يقول الإمام أبو حنيفة : لو مات سفيان في زمن إبراهيم لدخل على الناس فقده . قال البراء بن رنيم سمعت يونس بن عبيد يقول : مارأيت أفضل من سفيان ، فقيل له : هل رأيت سعيد بن جبير و إبراهيم النخعي و عطاء بن يسار و مجاهدا وتقول هذا ؟ قال هو ما أقول : ما رأيت أفضل من سفيان . قال الإمام الذهبي : کان سفيان الثوري رأسا في الزهد والتأله ، والخوف ، رأسا في الحفظ ، رأسا في الفقه ، راسا في معرفة الآثار ، لايخاف في الله تعالى لومة لائم من أئمة الدين ، واغتفر له غير مسـألة اجتهد فيها . قال سفيان بن عيينة : كان الإمام سفيان الثوري كأنّ العلم ممثل بين عينيه ، يأخذ منه ما يريد ، ويدع ما لا يريد . قال بشر الحافي : كان الإمام سفيان الثوري عندنا إمام الناس ، وقال : سفيان في زمانه كأبي بكر و عمر رضى الله تعالى عنهما في زمانهما .




🌻 *مكانته العلمية :* 🌻


           له مكانة شامخة في العلم يشهد به العلماء المعاصرون له واعترف به خلق من الأفاضل . قال عبد الله بن المبارك : كنت أتأسف على سفيان وكان يقول : لولم أطرح نفسي بين يدي سفیان ، ماکنت اصنع بفلان وفلان . و يقول الإمام أبوحنيفة النعمان بن ثابت عليه الرحمة والرضوان : لو كان سفيان الثوري في التابعين لكان فيهم له شأن . وعنه قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى : لو حضر علقمة والأسود لاحتاجا إلى سفيان . و الإمام القاضي فضيل بن عياض يقول : كان الإمام سفيان الثوري واللّٰهِ أعلمَ من أبي حنيفة . و أبو داود یقول : لیس يختلف سفيان الثوري وشعبة في شئ الا یظفر به سفيان ، خالفه في أكثر من خمسين حديثا ، القول فيها قول سفيان . وعن يحي بن معين قال ماخالف أحد سفيان في شئ إلا كان القول فيه قول سفيان . وقال يحي بن سعيد القطان : ليس أحد أحب إليّ من شعبة ولا يُعد له أحد عندي وإذا خالفه سفيان أخذت بقول سفيان . نظرا إلى سعة علمه وإتقانه واعترافا به يقول الإمام الأوزاعي : لو قيل لي إختر لهذه الأمة رجلا ، يقوم فيها بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم ، لاخترت لهم الإمام سفيان الثوري . وقال أبوحاتم الرازي : الإمام سفيان الثوري فقيه حافظ زاهد إمام ، هو أحفظ من شعبة .


     🌻 *فقاهته :* 🌻

              مما لاشك فيه أن سفيان الثوري كان إماما من أئمة المسلمين وعلما من أعلام الدين ولقد شهد بذلك غير واحد من الأئمة المعاصرين له ، فقال سفيان بن عيينة : ما رأيت رجلا أعلم بالحرام والحلال من سفيان الثوري . وقال الخريبي : ما رأيت أفقه من سفيان الثوري . وروى المروذي عن الإمام أحمد بن حنبل قال : أتدري مَن الإمامُ ؟ الإمام سفيان الثوري ، لا يتقدمه أحد في قلبي . وقال إبن حبان : كان سفيان الثوري من سادات الناس فقها و ورعا وإتقانا . و قال يحيى بن سعيد القطان : سفيان الثوري أحب إلىّ من مالك في كل شيء . يعني في الفقه وفي الحديث و في الزهد .



           ما مضى كان من الناحية النظرية ، أما من الناحية العملية أو التطبيقية فقد ظهرت مقدرة الثوري واضحة للعيان من خلال فتاواه التي كان يجود بها على أبناء مجتمعه ‌. يثبت من خلال ما تضمنته المصادر الموثوقة أن الثوري كان فقيها عارفا و حبرا مجتهدا ومفتيارفيعا .

       

         قال الوليد بن مسلم : رأيت الثوري بمكة يستفتٰى ولما يخط وجهه بعد . ولذا أصبح مرجعا في الأمور الفقهية الغامضة التي تحيرت العقول فيها . كان دقيق النظر وذا الرائ السديد . الأئمة والعلماء كانوا يعظمونه و ينزلون عند قوله ويتمسـكون بفتاواه.

    🌻 *نماذج من فتاواه واجتهاده :* 🌻


           لما بلغ قمة العلم والفضل و تمكن من الرسوخ في الإجتهاد فتواكب العلماء وعامة الناس على حلقاته فأفاد و أجاد واستفادوا واستزادوا. في السطور الآتیة عدة سائل سئل عنھا ومن خلالها یتجلى صلابة رأيه وسداده ويظهر قيمة وأهمية موافقة الفقهية . 


          ١. ذكر أبو نعيم بسنده أن إياس بن عمرو دخل مسجد سفيان الثوري فقال : يا أبا عبد الله إن قول لااله الاالله عشر حسنات ، والحمد لله والله اكبر عشر ؟ فقال الثوري : كدا أبلغنا . قال إياس : فما تقول فيمن كسب ثلاثين ألف درهم من غير حقها وقال : أقعد وأسبح وأحمد وأكبر حتى أعمل من الحسنات بعدد هذه ؟ فقال سفيان الثوري : فليردها قبل ، فإنه لا يقبل له ذكر إلا بردها.


                ٢. وسئل عن المسح على الخفين فقال : إمسح عليهما ما تعلقتا بالقدمين و إن تخرقا ، قال : وكذلك كانت خفاف المهاجرين والأنصار مخرقة مشققة .


      ٣. الإمام سفيان الثوري كان يهم المسلمين وكان لا يحب أن يتعرض مسلم للذل والهوان . ولذا لما سئل عن الرجل الذي عليه دين هل يأكل اللحم فأفتى : لا ، بل يُؤدّي دَينه أوّلاً لكى لا يذله الدائنون .

           

           ٤. قال الإمام الأوزاعي : كنت أقول فيمن ضحك في الصلوة قولا لا أدري كيف هو؟ فلما لقيت سفيان الثوري فسألته ، فقال لي : يعيد الوضوء ويعيد الصلوة فأخذت به . واستنبط هذه المسألة من قول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما أخرجه الطبراني عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه بينما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي بالناس إذ دخل رجل فتردّى في حفرة كانت في المسجد وكان في بصره ضرا فضحك كثير من القوم وهم في الصلاة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم : *ألا من ضحك منكم قهقهة فليعيد الوضوء والصلوة جميعا* .


         ٥. قال ابن مهدي : نزل عندنا سفيان الثوري وقد كنا ننام أكثر الليل فلما نزل عندنا ما كنا ننام إلا أقله . ولما مرض بالبطن كنت أخدمه وأدع الجماعة فسألته ، فقال خدمة مسلم ساعة أفضل من صلوة الجماعة ، فقلت : ممن سمعت هذا ؟ قال حدثني عاصم بن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال : لأن أخدم رجلا من المسلمين على علة يوما واحدا أحب إليّ من صلوة الجماعة ستّين عاما لم يفتني فيها التكبيرة الأولى .


  🌻 *فتواه ضد السلطان المهدي :* 🌻

          كان رضي الله تعالی عنه لايخاف في الله تعالى لومة لائم ولا طعن طاعن و ظلم ظالم و لا جاه ذی جاه و سلطة بل يقول الحق و يصرح به و يساعده عند العامة والخواص من السلاطين والجبارة .

 و من خير مثال على هذا ما ذكر في "وفيات الأعيان" أنه وقع الجدال بين الخليفة المهدي وزوجته الخيزران . وكان الحكم الفصل في ذلك للإمام الثوري الذي أظهر على أنه لا یداري ولا يجامل في الأمور الشرعية ما دام يعتمد في حل إشكالاتها على ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم .


         قيل : إن المهدي قال للخيزران : أريد أن أتزوج وكانت بنكاحه ، فقالت له : لا يحل لك ان تتزوج علىّ ، قال : بلى ، قالت له : بيني و بينك من شئت ، قال : أترضين سفيان الثوري ؟ قالت : نعم ، فوجه إلى سفيان ، فقال المهدي : إن أم الرشيد تزعم أنه لا يحل لي أن أتزوج عليها وقد قال الله تعالى : *فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنٰى وَثُلٰثَ وَرُبٰعَ* ثم سكت ، فقال له سفيان : أتِمِّ الآية ، فقرأ المهدى : *فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً* فقال له سفيان : وأنت لا تعدل ، فأمر له بعشرة آلاف درهم فأبى أن يقبلها . 


🌻 *ورعه في الفتوى :* 🌻


            رغم غزارة علمه ودقة نظره كان يحتاط كثيرا في الفتوى ولا يسارع إليها ولا يتصدى له و لا يحرص أن يفتي ، بل كان يجتنب و يبتعد و يود أن يسأل الناس غيره ويلتزم بالوقار والطمأنينة وكان لا يجيب ركبا و مشيا وكما لا یرُدّ حين هو مشتغل بأمر و شأن غير العلم والفكر . قال إبن أسباط : سئل الثوري وهو يشتري عن مسألة فقال للسائل : دعني فإن قلبي عند درهمی فلست متفرغا لأفتيك وقد أخطئ وأنا مشتعل بالبيع والشراء له.

         وقال مروان بن معاوية : شهدت سفيان الثوري وسألوه عن مسألة في الطلاق ، فسكت وقال : إنما هي الفروج أي اخاف أن أفتي بالحل وهي محرمة عليه ، فأتسبب في الوقيعة والوقوع في فرج لا تحل له . 

وكان حريصا على مطابقة قوله لعمله ، وهذا دأب العلماء العارفين والائمة الربانيين أن يكونوا عاملين بما يعملون . ولا تختلف أقوالهم أفعالهم حذرا مما ورد في القرآن الكريم : *یٰۤاَیُّهَا الَّذِیْنَ اٰمَنُوْا لِمَ تَقُوْلُوْنَ مَا لَا تَفْعَلُوْنَ(۲)كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللّٰهِ اَنْ تَقُوْلُوْا مَا لَا تَفْعَلُوْنَ(۳)* { سورۃ الصف } قال عبد الرحمن بن مهدي : سمعت سفيان يقول : *ما بلغني عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حديث قط إلا عملت به ، ولو مرة واحدة* ( الله اکبر )


    🌻 *وفاته :* 🌻


           توفي الثوري في شعبان عام ١٦١ھ في البصرة ، وأخرجت جنازته على أهل البصرة فجأة ، فشهده الخلق ، وصلىّ عليه عبد الرحمن بن عبد الملك بن أبحر حسب وصية ، وكان رجلا صالحا . هو الذي أدخله في قبره ، وساعده في ذلك خالد بن الحارث .




 فرحمه الله تعالى رحمة واسعة ، وجزاه خير الجزاء عن الإسلام والمسلمين

تبصرے

اس بلاگ سے مقبول پوسٹس

حضور تاج الشریعہ علیہ الرحمہ اغیار کی نظر میں

سہل بن عبداللہ تستری علیہ الرحمہ

قوم کے حالات